الإزدواجية المدمرة
بعد أن أخذ المسلمون ببعض
الكتاب “القرآن” وهجروا بعضه الآخر راحوا إلى ما أخذوه فعطلّوا كثيراً منه في
سلوكياتهم فإذا بالقول شيء وبالفعل شيء آخر. والناظر في أمر المسلمي اليوم يرى عجباً، فالجوارح والأعضاء
وحركاتها وسكناتها في وادٍ والعقيدة والايمان والفكر والوجدان في وادٍ آخر،
والصورة هنا تعبر عن جنون مرضي وصفي أو عن نفاق نعوذ بالله أن نكون من أهله، وما
أظن أن تفسيراً آخر يجوز في حال كهذه.
كلنا يعلم أن الصلاة هي
الفارق بين الكفر والايمان، وأنها يوم القيامة إن صلحت صلح أمر العبد كله،وان فسدت
فسد امره كله، ومع هذا كثيرون منا لا يصلون، فإن سألتهم قالوا: نحن مقصرون وانتهى
الأمر.
وكلنا يعلم أن الصلاة تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر، وصلاتنا لا تأمرنا بمعروف ولا تنهانا عن منكر، بل لعل
بعضنا يأتي المنكر قبل صلاته أو بعدها مباشرة دون أدنى إحساس أو تقدير بما سيكون
عليه أو بما كان فيه.
وكلنا يعلم أن للمسلم
قيماً وأخلاقاً باطنة وظاهرة، فمن باطنها التطهر من العجب والرياء والحسد والتطير
والخواطر الشيطانية، ومن ظاهرها الصدق والعفاف والاستقامة والعدل وأداء الأمانات
إلى أهلها، ومع كل هذا نجد أنفسنا مرتعاً لكل العيوب الباطنة، وجوارحنا مظهراً لكل
تنصّل من العزائم الظاهرة، حتى جاز القول إننا لسنا من أصحاب الهمم وقد خارت فينا
قوانا وانحطت الذمم.
الرزق مقسوم ونحن نتنازع
عليه، والربا كسب حرام وأكثرنا رزقه من ربا أو ملوث بغبار من الربا، فإن لم نأكل
من صريح الربا اختلقنا أشكالاً وأساليب ملتوية له، فإن لم يكن.. مارسنا الغش
والتدليس والتطفيف، فكيف يستوي كل هذا مع إيماننا بالرزق والرزاق الأوحد؟
“وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” وأحوالنا تشهد أننا لم نعدّ شيئاً
منذ عقود، “ولا تولوهم الأدبار” ونحن قد وليناهم الأدبار منذ أكثر من ستين عاماً..،
والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وكلنا متمسك بالحياة ولو مع الذل والعار.
هذا هو الوجه الآخر من
الوباء العظيم الذي حل بالأمة ففت من عضدها، بعد هجرها لبعض الكتاب والسنة تحت
أسماء مختلفة كلها خداع وغش وتزوير. نؤمن بشيء ونمارس شيئاً آخر، نعي شيئاً ثم لا
نسمح له بالخروج من الوعي إلى السلوك والفعل، الخمول مقدّم على كل همة مهما صغرت
وتضاءلت، وحياتنا أكل ونوم ورغبات ولذائذ لم نحرص حتى على تنقيتها من الحرام.
هذه الهوة الفاصلة بين
“الإيمان” كحالة عقلية و”السلوك أو الفعل” كترجمان طبيعي ومباشر وتلقائي لما رسخ
في العقل والوجدان تكشف عن أمرين خطيرين: الأول أننا لم نعد نقدر الله حقه وقدره، ونقدر غضبه حق قدره، ونقدر
تعجيله بالعقوبة حق قدره، وهو أمر خطير لا بد من تداركه بسرعة على الأقل من قبيل
الأدب معه سبحانه وتعالى. والثاني أنه يصح أن نقول أن المسلم اليوم يعاني من حالة
من انعدام المسؤولية، فهو يتحرك ويفعل ويتصرف دون إحساس منه بأنه مسؤول عن أفعاله
مسؤولية دنيوية وأخروية، فالأمر هنا أشبه بما يكون عليه الطفل في طفولته المبكرة ولكننا
وهنا المصيبة- نتحدث عن رجال ونساء ناضجين وناضجات أو يفترض أنهم كذلك
حالة انعدام المسؤولية هذه
لا يمكن أن تكون أساساً لبناء حضاري، فالأمر هنا ليس مجرد “تقصير” في أداء بعض
الواجبات، إنه حال من انعدام المصداقية وانعدام الكفاءة والقدرة على البناء والإنجاز،
فالتوحيد بمعانيه وبطيفها الواسع يعني برنامجاً للحياة الطيبة الغنية الخصبة
الكريمة التي تقوم على الخير والعدل، وهذا البرنامج ليس مجرد أفكار أو تأملات، إنه
حقائق وعقائد وانفعالات ومشاعر وقيم وأخلاق وسلوكات وأفعال، وكل جرح في واحد من
هذه المكونات هو جرح في أصل التوحيد ولبه وطعن في خاصرته وظهره، إننا لا نبالغ إن
وصفنا هذه المسافة بين “العقيدة” و”الفعل” بأنها نوع من “الكذب” الذي لم يرضاه
الله ورسوله للمؤمن أبداً.
فالفعل عندما لا يصدق
“القول”، والسلوك عندما لا يصدق “العقيدة”، هما كذب على الله وعلى الذات وعلى
الآخرين، والكذب عندما يتحول إلى لغة عامة لا يترك فرصة لاتفاق أو تعاون على
الخير، وهكذا تنهار الأمم.
وباختصار
يمكن القول أن هذه الازدواجية بين العقيدة والسلوك لا تصلح لأي بناءٍ عليها لأنها
أكثر من هشة وضعيفة ومتهاوية