تابع ما قبله
4ـ في نهاية الحوار جاءت تعليقات كل من الطرفين على ما جرى في مكانها
الطبيعي، فالأمريكيون أصروا على أن زملاءهم العرب قد تعمدوا التصنع
والتظاهر، وعلق أحدهم بأنه أعجب بثقافة الفتيات العربيات ولكنه صُدم بعد
ذلك بتشبثهن بالتقاليد (!)، أما العرب فقد عبروا عن إعجابهم بثقافة وحرية
محاوريهم، وحتى مفاجأتهم باكتشاف القيم العائلية النبيلة التي يتشبثون
بها.
بعد حوالي شهرين قدمت القناة حلقة أخرى لمجموعة من الشباب العرب العراقيين
الذين تحاوروا مع مجموعة مماثلة في نيويورك، وقد وقعوا في الأخطاء السابقة
نفسها، وزادوا عليها ترسيخا مؤلما لظاهرة الانهزام العربي في نفوس مجموعة
منتقاة من الشباب، إذ كان من الواضح تماما عدم تمثيل مجموعة الشباب
والفتيات العراقيين لمجتمعهم الذي كان قد خرج للتو من الحرب، حيث يتقنون
الإنجليزية بطلاقة ويفكرون من منطلقات غربية بحتة.
المفارقة الأعجب هي في اختيار المخرج لقصة أحد الشباب العراقيين الذين
قضوا في الحرب بالصدفة، والذي يبدو أنه كان ينتمي لتلك الطبقة المخملية في
بغداد. يبدأ التصوير لغرفة الشهيد بالتركيز على صور الفتيات أنصاف
العاريات التي علقها على الجدران قبل موته، ثم تبكي الأم الثكلى وهي تحكي
قصته بالإنجليزية وتعرض لبنطال الجينز الملطخ بالدم. أما السؤال الأهم
هنا: ألم يكن من الممكن استدرار عطف تلك المجموعة من الشباب الأمريكان لو
أنهم عرضوا لقصة شهيد فقير أو متدين يمثل الأغلبية الساحقة للشعب العراقي؟
الطريف هو أن العربية قد عادت مؤخرا لتكرار تلك التجربة من خلال برنامج
مماثل يضم عددا أقل من الشباب من كلا المجتمَعَين في استديو واحد، ويلاحظ
أن الأخطاء السابقة يتم تكرارها بشكل مقارب، حيث يتعمد المنتجون انتقاء
الشباب العلماني لتمثيل المجتمع العربي، ويسمح لهم بمناقشة الكثير من
القضايا التي قد لا يفقهون بها لمعرفتهم الضحلة بالدين، كما يتضح الانتقاء
في اختيار الفتيات المحجبات اللواتي قد لا يختلفن كثيرا عن زميلاتهن
باستثناء غطاء الرأس.
على المنوال نفسه تدور بقية برامج MBCالجماهيرية، والتي تتنوع بين برامج
الأطفال (عالم دريد) والسياسة (على مسؤوليتي) والمرأة (كلام نواعم) والفن-
وهي أكثر من أن تحصى- حيث يتم بث هذه البرامج من استوديوهات باذخة في
بيروت، ويشارك في تقديمها كثير من المذيعين غير المسلمين، لترسيخ مفهوم
العلمانية كحل حيادي أمام التنوع المصطنع لمرجعية المشاهد العربي، ولا
تفوتنا الإشادة هنا ببرنامج (يلا شباب) الذي يشكل خروجا على القاعدة
المتبعة في برامج كل القنوات العربية غير الدينية، ولعل العوائد
الاستثمارية التي جنتها القناة من هذا البرنامج الناجح هي الدافع الرئيس
-إن لم يكن الوحيد- لإنشائه في ذلك الوسط غير الملائم.
بالانتقال إلى القنوات الأخرى التابعة لهذه المجموعة، نقف عند قناتي MBC2
المخصصة للأفلام الأمريكية، وMBC4المخصصة للمسلسلات والبرامج والأخبار
الأمريكية أيضا.
من الجدير بالذكر هنا أن سياسة الرقابة العربية على المواد المستوردة قد
بلغت شوطا كبيرا من "التطور" منذ انطلاقة البث التلفزيوني عام 1960 في
مصر، إذ تم اختزال مفهوم المحظور هنا إلى أضيق الحدود، وحسب تعبير الراقصة
فيفي عبده فإن مناطق أخرى من جسد المرأة لم تعد ممنوعة من التصوير كما كان
الحال سابقا! والأمر يتسع بشكل أكبر عندما تكون المواد مستوردة من
الخارج..
قد يكون الحديث عن العورات أقل شأنا من الخوض فيه في هذا المقام، ولكن
الخطورة الأكبر لم تعد في تضييق مفهوم العورة هنا، بل في عرض الثقافة
المنحلة والإباحية بشكل سافر دون أن تمر على أي مقص للرقيب، فقد بات من
الممكن لهذه القنوات وغيرها بث الأفلام والمسلسلات والبرامج التي تروج
للجنس والإباحية بكل صراحة ودون أي تحرج، وكل هذا مبرر ما دامت العورات لم
تكشف بعد.
في جعبتي الكثير من الأمثلة التي ما زالت تُعرض على هذه القنوات، فهناك
بعض الأفلام التي تدور قصصها كاملة حول السفاح الرخيص، كأحد الأفلام الذي
عرض لقصة مجموعة من الشباب والفتيات في ليلة رأس السنة، حيث لا همّ لهذه
المجموعة غير المترابطة إلا البحث عن شريك لتلك الليلة، وهو ما يتم تحقيقه
لاحقا مع نهاية القصة. أما المسلسلات الكوميدية فلا تجد تحرجا من الترويج
لهذه الثقافة تحت لائحة الكوميديا التي تبرر كل شيء، حيث تغدو الكلمات
الجنسية مع ترجماتها متاحة للشباب واليافعين طوال النهار، خصوصا وأن هذه
المسلسلات تصنف تحت فئة البرامج الترفيهية العائلية(!) .
البرامج الأمريكية ليست بعيدة عن هذا أيضا، والمؤسف حقا أن تلقى حلقة
أوبرا التي تعرضت لوضع المرأة في السعودية كل ذلك الاستنكار بينما لم ينبس
أحد من المتابعين ببنت شفة إزاء الإسفاف المستمر في الترويج للثقافة
الأمريكية المنحلة بهذا الوضوح سواء من خلال برنامج أوبرا أو غيره، ففي
إحدى حلقات برنامج Dr. Phillالمخصص لحل المشاكل الزوجية، يتم عرض قصة أحد
الأزواج الذي جاء للمسرح ليعترف بخيانته لزوجته طوال سنين مع إحدى زميلاته
في العمل بالرغم من معرفتها بالأمر، حيث تُناقش المشكلة من قبل الدكتور
(فل) على أنها مسألة خيانة يمكن أن تحدث في أي عائلة أمريكية- حتى في بيت
الرئيس كما هو معروف- بينما يتناسى المشاهد العربي أن هذه الجريمة التي
تسمى زنا في الإسلام تستوجب الرجم حتى الموت!
الأثر الكبير والخطير إذن لهذا الإعلام الذي يتم بثه على مدى أربع وعشرين
ساعة لا يقتصر على بعض المشاهد غير المهذبة، بل في الثقافة التي يتشبع بها
والتي تحمل في كل ثانية من ثواني البث رسائل مؤدلجة تترسخ في ذهن المشاهد
العربي المسلم، والذي غالبا ما يكون في سن الشباب أو الطفولة.
تعتمد وسائل الإعلام العالمية اليوم سياستين في غاية الخطورة لترويج أيديولوجيتها:
1، عدم التصريح: حيث يدعي الإعلاميون في كل وسائل الإعلام تقريبا الحيادية
مع تفاوت بسيط إزاء بعض القضايا الحساسة، وهي دعوى لا يمكن أن تقنع أحدا
من العقلاء، ولكن المشكلة الحقيقية هي في عدم وضوح الرسالة التي يتم
تحميلها للمواد الإعلامية، فعندما يتعمد الإعلاميون بث نشرة الأخبار من
استديوهات باذخة وبتقنيات مكلفة، مع اهتمام كبير بمظهر المذيع أو المذيعة
وطريقة الإلقاء، ثم إتباع الخبر بتحقيق مصور واتصال هاتفي مع أحد
المختصين، يستتبع كل ذلك إيجاد نوع من الارتياح لدى المشاهد بكفاءة القناة
والقائمين عليها، دون الانتباه إلى أن التحقيق لم يتعرض لكل وجهات النظر،
وأن الخبر قد تمت صياغته بطريقة مفبركة، وأن الضيف الذي تم الاتصال به لم
يطرح إلا وجهة نظره الخاصة والتي قد يخالفه فيها معظم أفراد المجتمع.
من جهة أخرى فإن الانفلات الأخلاقي في معظم الأفلام والمسلسلات المستوردة
لم يعد يخفى على أحد، كما لم تعد حجة تجنب المشاهد الإباحية مقنعة لكل من
بقيت لديه مُسكة من عقل، فالإباحية لا تُنقل اليوم بشكلها السافر، بل من
خلال أفلام وحلقات كاملة تُبث على مدار الساعة ويدور محورها الرئيس حول
العلاقات الجنسية التي تجري بكل سهولة خارج إطار الزواج، وهو ما يسمى عند
المسلمين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المشاهدين بالزنا، والذي يعد
من أكبر الكبائر في الإسلام كما لا يخفى على أحد. هذا فضلا عن تشجيع
الشباب والفتيات على التمرد وخرق الثوابت الإسلامية والأعراف الاجتماعية،
والمشكلة أن ذلك لا يتم من خلال حوار حضاري يناقش مفاهيم الشباب
وقناعاتهم، بل عبر السرد المستمر للقصص المثيرة للعواطف والغرائز تحت شعار
الانفتاح تجاه الآخر والحرية الفردية.
2، التكرار: من الثابت في التاريخ أن دعاة الأهواء لا يملون، بينما تضعف
همم الشرفاء والمناضلين في سبيل الحقيقة قبل بلوغ الهدف، ولعل الإعلام
اليوم يقدم مثالا واضحا على هذا الصراع. فقد أثبتت إحدى الدراسات أن تكرار
عرض أحد النجوم في فيلم سينمائي وهو يدخن لأربع مرات كفيل بزرع هذه العادة
في نفوس معجبيه! لذا فإن تكرار عرض هذه الأفلام أو البرامج أو التغطيات
الإخبارية الموجهة قد يؤدي مع مرور الوقت إلى تغيير كبير في الرأي العام
العربي، إذ بات من الواضح اتساع القاعدة الشعبية المتأثرة بهذه الثقافة،
ولا يقتصر الأمر طبعا على الإباحية والانحلال التي قد تشكل بوابة نفسية
للدخول إلى القناعات، بل يمتد إلى العبث بالمرتكزات الأساسية للفرد
وطريقته في اتخاذ مواقفه تجاه الكثير من القضايا، خصوصا عندما يغيب الصوت
الآخر المخالف، أو يكون ضعيفا وغير قادر على المنافسة والإقناع.
هكذا تسير الأمور اليوم، فبعد عقود طويلة من القمع الاستبدادي، والاستئثار
الرسمي لوسائل الإعلام، بات الانفتاح الإعلامي حكرا على الخط الوحيد
المسموح له بالوجود، وهو الساعي بكل ما أوتي من قوة لإخماد جذوة الحماس
المتبقية في نفوس المسلمين، وإقناعهم بالتكرار الذي لا يمل بأنهم مجرد ذيل
للغرب يعيش خارج التاريخ والجغرافيا، وأن النهوض لا يتم إلا بالمزيد من
التقليد والاستجداء، عسى أن يقنع الغرب أخيرا بالشفقة ومد يد العون، لكونه
فيما يبدو سبيل الخلاص الأوحد.